: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء (15)]
راجع على سبيل المثال: [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/29)]
شبهة مفهوم طائفة من أهل الكتاب
ومن الشبه التي قد يعتمد عليها أمثال هؤلاء، في فهمهم الأعوج، قوله تعالى:
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران (69)]
يعني أن هذا التمني إنما حصل من طائفة من أهل الكتاب وليس منهم جميعا، فغير هذه الطائفة لا يحصل منهم هذا التمني، إضافة إلى أن "مِن" هنا صالحة للتبعيض.
وهو استنباط غريب لا يصدر من طالب علم مطلع على الآيات الأخرى المتعلقة بأهل الكتاب، وعلى بيان علماء التفسير لمعانيها، وعلى الواقع الحاصل من اليهود والنصارى ضد الإسلام والمسلمين.
ولهذا نبه علماء التفسير على معنى الآية وأمثالها وحملوها على ما يجب حملها عليه.
قال الألوسي رحمه الله: "من للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل لبيان الجنس" [روح المعاني (3/198)]
وهو يعني أن "من" يحتمل أن يكون معناها "التبعيض" وأن يكون "لبيان الجنس" وحملها على التبعيض المراد منه رؤساء أهل الكتاب، وبقيتهم تبع لهم كما هو معلوم...
وقال النحاس رحمه الله: "ثم قال تعالى ﴿ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم﴾ وكلهم كذا، وإنما "مِن" هاهنا لبيان الجنس، وقد قيل إن طائفة بعضهم..." [معاني القرآن (1/419]
نبه بقوله: "وكلهم كذا" على نفي الفهم السقيم الذي نحن بصدد الرد عليه، يعني أن أهل الكتاب كلهم يودون إضلال المسلمين: الزعماء وأتباعهم...
فلا يصح أن يفهم من كلمة "طائفة" أن غيرها من أهل الكتاب لا تتمنى ما تتمناه هذه الطائفة...
طوائف متخصصة في الإضرار بالمسلمين
أما المؤمنون منهم بدين الإسلام، فقد أثنى الله تعالى عليهم في آيات من كتابه، كما سبق قريبا.
وأما غير المؤمنين بدين الإسلام، فغالب زعمائهم وقادتهم ظاهرة عداوتهم للإسلام والمسلمين، وقد تختلف عداوتهم قوة وضعفا، فالزعماء منهم أشد عداوة، وعامتهم يتبعونهم في تلك العداوة، وغالبهم – إن لم يكن جميعهم - يتعاونون على إنزال الضرر بالإسلام والمسلمين:
فمنهم من يتمنى إضلالنا كما مضى.
ومنهم من يظاهر علينا أعداءنا سواء كانوا منهم أو من غيرهم، كما قال تعالى:
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)﴾ [الحشر]
ومنهم من يخططون لأتباعهم، بأن يتخذوا الوسائل التي يتمكنون بها من رجوع المسلمين عن دينهم، كما قال تعالى:
﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾َ[آل عمران (72)]
وقد حذرنا الله تعالى من الارتداد عن ديننا بطاعة فريق منهم، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران (100)]
وأخبرنا الله تعالى أن فريقا منهم، يحرفون كتب الله ويغيرونها، ألفاظا ومعاني، بحيث يخفونها ويكتبون للناس غيرها، ويوهمونهم أنها هي كتب الله، افتراء وكذبا، ليضلوا من يجهل ما أنزل الله بذلك.
قال تعالى:
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران (78)]
وأخبرنا تعالى أن فريقا منهم يكتمون الحق الذي جاء به الرسول وهم يعلمونه. فقال تعالى:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (146)
فهل يعني إسناد الكفر إلى طائفة أو فريق من أهل الكتاب، براءة غيرها من ذلك؟!
إن اليهود يتفقون على عداوتنا وعداوة ديننا ، وعلى حربنا وحرب ديننا، ويقسمون أنفسهم أقساما متنوعة، كل قسم منهم يتخصص في حربنا بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
وكذلك غالب زعماء النصارى يقسمون أنفسهم أقساما، كل قسم منهم يحاربنا ويحارب ديننا، بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
بل إن غالب اليهود والنصارى، يتفقون فيما بينهم على أن يقسمون أنفسهم أقساما، كل قسم منهم يحاربنا ويحارب ديننا، بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
ونحن نراهم في عصرنا هذا يدربون أصنافا منهم لمحاربتنا، في أرضنا وأنفسنا وديننا وعقولنا ونسلنا وأموالنا، وسائر ضرورات وثوابت حياتنا، فلم ننج من عدوان أي صنف من أصنافهم أو طائفة من طوائفهم:
وليس من السهل سرد تلك الأصناف والطوائف وذكر قاموس عدوان كل صنف أو طائفة منهم علينا...
فهذا يحاربنا بالسلاح، وذاك يمده بالمال والرجال، وهذا يحارب بالتعليم، وآخر يحاربنا بالإعلام، وطائفة تحاربنا بالاقتصاد، وأخرى بالصحة والتطبيب وثالثة بالسياسة، ورابعة بفساد الأخلاق، وخامسة بالتجسس والاستخبارات، وسادسة بالتكنولوجيا والصناعات، وسابعة بالكيد والدس والتحريش بيننا، وثامنة بتحريف معاني كتابنا وسنة نبينا، وتاسعة بتفكيك أسرنا ومجتمعنا...
ولهم في كل ذلك جامعات ومراكز بحث ومعاهد متخصصة، يتخصص فيها جيوش منهم لتنفيذ ما يريدون من حربنا وحرب ديننا...
فهل يليق ينا إذا رأينا طائفة منهم تحاربنا في مجال من المجالات، أن ننسى الطوائف الأخرى التي تحاربنا في المجالات الأخرى، ونقول: هذه الطائفة سيئة ولا يلزم من عداوة هذه الطائفة وحربها أن يكون غيرها من طوائف اليهود والنصارى كذلك؟
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا
إن العدل الذي أوجبه الله تعالى علينا، يقتضي منا ألا نظلم أحدا من أهل الكتاب ولا غيرهم، ولذلك أختم هذا المبحث بالتنبيهات الآتية:
التنبيه الأول: أن من أهل الكتاب المؤمن بديننا ومنهم الكافر، وقد سبق ذكر ذلك.
التنبيه الثاني: بعض أهل الكتاب أشد عداوة لنا ولديننا من بعض، فاليهود في الجملة أشد عداوة لنا من النصارى في الجملة، والنصارى درجات في عداوتنا، وأشدهم عداوة لنا في هذا العصر الطوائف المتحالفة مع اليهود، كما هو شأن البروتستانت المتصهينين وبخاصة في أمريكا.
التنبيه الثالث: كثير من الشعوب النصرانية في الغرب، عداوتهم لنا ولديننا ناشئة من تضليل متعمد من قادة المراكز السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والبحثية والعسكرية، في تلك البلدان.
التنبيه الرابع: أنه يوجد في البلدان الغربية عدد من الباحثين والمتخصصين في مجالات متنوعة: سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية، يتحلون بالإنصاف ويعترفون بظلم أبناء دينهم للمسلمين وعدوانهم عليهم وعلى دينهم، ولكن هؤلاء الأفراد نادرون مغمورون، تتجاهلهم وسائل الإعلام والمؤسسات الغربية التي تُعنَى بإبراز الأكفاء والشخصيات ..
وقد أمرنا الله تعالى أن نفرق في معاشرتنا لأمثال هذا الصنف الذين لم يقاتلونا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا علينا من يقاتلنا ويعتدي علينا، فقال تعالى عن الفريقين:
﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (
إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)﴾ [الممتحنة]
التنبيه الخامس: الاعتراف بأن ما يصيبنا ويحل بنا من كيد أعدائنا وحربهم لديننا وعدوانهم علينا، إنما هو ناشئ من عند أنفسنا ومن تقصيرنا في المجالين الآتيين:
المجال الأول: بعدنا عن فقه ديننا وضعف إيماننا، وقلة عملنا بما أمرنا الله تعالى به، وارتكابنا لكثير مما نهانا الله تعالى عنه.
المجال الثاني: عدم قيامنا بالبلاغ المبين الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر به أمته من بعده، والبلاغ المبين شامل لإيصال كل ما هو حق إلى الناس، من العلم الشرعي والإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الدخول في الإسلام.
وهو شامل كذلك لبيان ما في الإسلام من عدل وبر وإحسان، وما فيه من الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله تعالى، وأنه يدعو إلى استغلال خيرات السماء والأرض فيما يعود على البشرية كلها بالخير، وما فيه من النهي عن الظلم والعدوان.
وهو شامل كذلك لبيان الظلم الواقع علينا من اليهود وأعوانهم من قادة النصارى، باغتصاب أوطاننا، وإزهاق أرواحنا، ونهب خيراتنا، لأن غالب الشعوب الغربية إنما تؤيد اليهود وزعماء دولها، لعدم علمها بالتصرفات الظالمة منهم علينا، بسبب التضليل الإعلامي الذي يقلب الحقائق عليه.
ولو اتخذ المسلمون وسائل الإعلام، وبخاصة الفضائيات التي يُشرح فيها للغربيين الواقع الذي يعانيه المسلمون من اليهود وزعماء الغرب، بثلاث لغات غربية على الأقل، هما الإنجليزية والفرنسية، لتغيرت أحوال الشعوب الغربية من التأييد للظلم إلى الوقوف ضده، ولكن تقصيرنا وعدم قيامنا بالبلاغ المبين الشامل للناس، هو الذي جعل الأمم تتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها:
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران(165)]
والذي يتأمل القرآن الكريم يجد بيانه شاملا لأمهات أبواب الإيمان، وأمهات أبواب العبادات، وأمهات أبواب المعاملات، وأمهات أبواب السلوك والأخلاق، وأمهات أبواب الأسرة والمجتمع، وأمهات أبواب الولايات، وأمهات أبواب المعاصي والعقوبات، وأمهات أبواب علاقات المسلمين بغيرهم....
ويجده كذلك يبين للمسلمين أعداءهم وكيدهم وما يجب عليهم أن يتخذوه للدفاع عن ضرورات حياتهم، ولم يقتصر بيان القرآن وبيان السنة والسيرة النبوية، وما سار عليه أهل العصور المفضلة من المسلمين، على أبواب معينة كما يظن ذلك كثير من المسلمين، بل بين لهم كل شأن من شئون حياتهم، فهو منهج لحياة الأمة، لا يجوز لها اتباع أي منهج يخالفه.
وفي خطبة جعفر بن أبي طالب التي ألقاها بين يدي النجاشي ملك الحبشة، في الرد على سفيري قريش، عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، اللذين أغريا النجاشي بالمسلمين، وطلبا منه ردهم إلى قريش، في تلك الخطبة وما ترتب عليها عبرة للمسلمين في قيامهم ببيان الحق والدعوة إليه وبيان الباطل لغيرهم والتحذير منه.
كما روى ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله إلى النجاشي... وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال فأين هم؟
قالا في أرضك فابعث إليهم فبعث إليهم.
فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.
قال وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسولا ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل....
قال عمرو فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
قال فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟
قال نقول كما قال الله هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد.
قال فرفع عودا من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم.
انزلوا حيث شئتم والله لولا ما أنا فيه من الملك، لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه"
[البداية والنهاية (3/69)]
وما لم نسلك المسلك الذي بينه لنا كتاب الله وسنة رسوله ومسلك أصحابه ومن تبعهم، فسنبقى مقهورين لأعدائنا.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام (153)]
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾
[يوسف